قوله تعالى ((وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما، وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)[1]
لقد وضع القرآن الكريم الاسس التي يرتضيها في الروابط الاجتماعية لكي يقوم على صرحها المجتمع الديني وصولا الى تكوين الحضارة القرآنية، ويتمثل ذلك في اعتبار المجتمع الاسلامي كيانا متميزا له خصائصه ومقوماته وتنظيماته الخاصة، وقد عمقت الشريعة هذا المعنى في جوانبها الموضوعية ما سمح ببقاء مفهوم المجتمع الاسلامي حياً بالرغم من التطاولات التي جرت عليه والاخفاقات التي مر بها والتي جعلت صورته باهتة وجسده نحيفاً، ومن الروابط الاجتماعية هي حب الوالدين.
حيث يرى اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في سورة الاسراء: 23-24 إن الله سبحانه وتعالى نهى عن الشرك في العقيدة ونهى عن الشرك في العبادة (وقضى ربك) أي امر إلزام وفرض (ألا تعبدوا) أيها البشر أصله (أن لا) أدغمت النون في اللام، لقاعدة يرملون (إلا إياه) فالعبادة خاصة، وهي مشتقة من (عبد) أي الإتيان برسوم العبودية، وكون الانسان عبداً له سيد (وبالوالدين احسانا) اي قضى ربك أن تحسنوا الى الوالدين، وهما الاب –يسمى والداً لأنه يلد بإخراج المني- والام، والاحسان فوق العدل، ثم يبين سبحانه لزوم الاحسان في حال كبرهما، لأن الإنسان، إذا كبر يسيئ خلقه، ويكثر طلبه، ومن طرف ثان، أن الولد – كما هو عادة كل انسان، اذا كبر ورشد، رأى نفسه في غنى عنهما، فكان مقتضى عدم الاحسان اليهما موجوداً عنده من جهتين، ولذا يخص سبحانه هذا الحال بالذكر، وقد قال بعض العارفين: إن أباك وأمك أحسنا اليك [2]،
وهما يريدان بقاءك، ويهفو قلبهما اليك، وانت تحسن اليهما –ان تحسن– وأنت ترى استغناك عنهما، فلا يبلغ احسانك احسانهما –مهما احسنت– وليعلم الولد أن الدار دار مكافئات، فمن أحسن الى ابويه أحسن أولاده اليه، ومن اساء اليهما، اساءوا اليه، (إما يبلغن عندك) أيها الولد و(إما) أصله (إن ما) دخلت ما الزائدة، على إن الشرطية للتزيين (الكبر) الشيخوخة، والكثرة في السن (أحدهما) أي احد الابوين، وهو فاعل يبلغن والكبر مفعوله، أي ان عاش أحدهما (أوكلاهما) عندك حتى كبرا، وبلغا كبيراً من العمر (فلا تقل لهما أف) وهي كلمة تستعمل عند الضجر، في قول مثل هذه اللفظة البسيطة، منهي عنه في الشريعة، وقد قال الصادق عليه السلام: لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها[3]. (ولا تنهرهما) النهر هو الزجر بإغلاظ وصياح، اي لا تزجرهما، وإن ارادا منك شيئا لا تطردهما، كما قال سبحانه: ((وأما السائل فلا تنهر))[4]، (وقل لهما قولاَ كريماً)) أي خاطبهما، وتكلم معهما بكلام لطيف حسن جميل[5].
(واخفض لهما جناح الذل) فكما أن فرخ الطائر يخفض جناحه لأبويه، تذللاً وخضوعاً، فافعل أنت ذلك بأبويك (من الرحمة)، أي اعمل هذا العمل من جهة الرحمة، والعطف بهما، لا كالطائر الذي يفعل ذلك من جهة طلب الغذاء، فإن الانسان قد يتواضع رحمة، وقد يتواضع طمعاً أو طلباً، أو ما أشبه (وقل) داعياً لهما (رب ارحمهما) تفضل عليهما باللطف والكرامة (كما ربياني) أي جزاء تربيتهما لي في حال كوني (صغيراً) فإنك يا رب أجزهما على أتعابهما، فإني لا أقدر على جزائهما، وفي الاثار الواردة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم والائمة الطاهرين عليهم السلام كثرة مدهشة من التأكيدات العجيبة حول الوالدين، وخصوصاً الام[6]
وعن الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال: (معناه لا تملأ عينيك من النظر اليهما إلا برأفة ورحمة ولا ترفع صوتك على أصواتهما ولا يديك فوق ايديهما ولا تتقدم قدامهما)[7].
وعن امير المؤمنين عليه السلام: (مودة الأباء قرابة بين الابناء، والقرابة الى المودة أحوج من المودة الى القرابة)[8].
وغيرها من الاحاديث التي لايسع الجال لذكرها في هذا الصدد.
وفي الحديث عن خفض جناح الذل يرى اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): إن ما يستفيده الطائر من جناحيه متوفر لدى الانسان ايضا ولكن بصفة اخرى، فكما ان الجناح يعد مصدر قوة ووسيلة يستعين بها الطير على الطيران، فكذلك الانسان ومن باب المجاز يكون له جناح متمثلا بقواه التي يستعين بها على خوض امور الحياة، فالعلم والمال والعضلات والذكاء والعشيرة وغيرها، كلها تعدّ أجنحة يستطيع الانسان التحليق بها في حياته، فمن طريق هذه الاجنحة يعي الانسان الاشياء ويبيع ويشتري ويبطش أو يعفو، وإن خفض الجناح لدى الانسان يعد من مصاديق الخلق الحسن الذي ينبغي أن يكون عليه، لكي يكون بواسطته أهلاً لأن يشق طريقه في الحياة بقليل من الصعوبة، وهذا يوجب محبوبيته عند الناس أيضاً، وإنه – خفض الجناح – أمر صعب جداً، إلا أنه ممكن تحقيقه[9].
وان الله تعالى الذي خلق الانسان، وكل شيء في هذا الكون الفسيح، انزل في شرائعه ما ينظم علاقة الانسان بالانسان كما علاقته بما يحيط به من الموجودات، ولهذا حرم عليه ان يرسم لنفسه خارطة الطاعة ولم يجز له ان يشرع لذاته قانونا، يخرج به من قانون الله عز وجل.
حيث ان التشريع وتحديد نوع الطاعة –التي هي عبادة في حقيقتها– خاص بالله وحده، لا شريك له، فكان من الطبيعي بالانسان ان يرسم علاقته بغيره، ابتداءً من ترسيم علاقته بالله سبحانه وتعالى، فينظمها ويجعل لها ضوابط محددة وفقا لما حدده الشرع المقدس ولما كانت علاقة الانسان بوالديه بالغة الدقة والحساسية وعليها تترتب اثار خطيرة تمتد ابعادها لتشمل كل شيء، فقد اولاها القرآن الكريم اهتماماً خاصاً ووضع ابعادها ومداها في عدد من آيات الذكر الحكيم.
وبهذا ان علاقة الانسان بوالديه هي علاقة شكر، وهي تقع امتداداً لشكر الله وطاعته، فالشكر ينبغي أن يكون لله اولاً، ويليه الوالدان، لان الله هو خالقهما، وهو الذي ألقى حب الاولاد في قلبيهما، ولولاه ما كان الاباء والامهات ينجذبون الى صغارهم أبداً، وهذا الشكر الخاص بالوالدين ينبغي أيضاً أن يكون لوجه الله تعالى، بسبب أن المصير النهائي يكون الى الله تعالى، فلا تبقى حاجة الى احداث الفصل بين الشكر لله والشكر للوالدين.
فحب الوالدين او برهما: هما أقصى درجات الاحساس اليهما، فالبر بالوالدين معناه طاعتهما واظهار الحب والاحترام لهما، ومساعدتهما والاحسان لهما، وقد جعل الله للوالدين منزلة عظيمة لا تعادلها منزلة، فجعل برهما والاحسان اليهما والعمل على رضاهما فرض عظيم، بكل وسيلة ممكنة بالجهد والمال، والحديث معهما بكل أدب وتقدير، والانصات لهما، وقد دعا الاسلام الى البر بالوالدين والاحسان اليهما، واذا كان من الطبيعي ان يشكر الانسان من يساعده ويقدم له يد المساعدة، فان الوالدين هما احق الناس بالشكر والتقدير، لكثرة ما قدما من عطاء وتفاني وحب لأولادهما دون انتظار مقابل، واعظم سعادتهما ان يشاهدا أبناءهما في احسن حال واعظم مكانة، وهذه التضحيات العظيمة التي يقدمها الاباء لابد ان يقابلها حقوق من الابناء ومن هذه الحقوق هي الطاعة لهما وتلبية اوامرهما والتواضع لهما ومعاملتهما برفق ولين وخفض الصوت عند الحديث معهما واستعمال أعذب الكلمات عند الحديث معهما واحسان التعامل معهما وهما في مرحلة الشيخوخة والدعاء لهما بالرحمة والغفران.
وعلى وفق ما تقدم أيضاً: نرى ان حب الوالدين ليست مجرد غريزة، فهي علاقة ثنائية تقوم على التبادل والتجاوب، وفي المملكة الحيوانية نرى الوالدان لا يبقيا متعلقان بأبنائهما، اللهم الا طالما كانوا صغارا يحتاجون الى رعايتهما وحينما يصبح الحيوان الصغير قادراً على الاستقلال عن ابويه، والنهوض بحاجاته الخاصة، فهنالك لا يلبث دافع الابوين ان يضعف، لكي ينتهي به الامر الى الزوال تماماً في خاتمة المطاف، وقد تختلف مظاهر (الابوية) باختلاف الفصيلة التي ينتسب اليها الحيوان، ولكن الملاحظ عموما أن دافع الابوية عند الحيوان هو مجرد مظهر غريزي حيواني يعبر عن عملية فسيولوجية محددة، وأما لدى الانسان فان دافع الابوية هو الى حد كبير عملية فسيولوجية ترتبط بالكثير من ارجاع الانفعالية التي لا تخلو من تعقيد[10]، وليس معنى أن الابوية البشرية لا تخضع لمجموعة من الشروط الهرمونية، والفسيولوجية، والغريزية – كالابوية الحيوانية سواء بسواء، وانما كل ما هنالك أن بعض العوامل الحضارية والاجتماعية قد انضافت الى غريزة الابوية عند الانسان، فجعلت منها ظاهرة انسانية معقدة، ونجد فرق بين حب الام وحب الاب للابن، فعلى حين ان الام هي من الابن بمثابة التربة التي صدر عنها، أو الطبيعة التي انبثق منها، أو الارض التي ترعرع فيها، نجد ان الاب لا يمثل على الاطلاق اية صورة من صور البيئة الطبيعية او الموطن الاصلي، ولما كانت علاقة الاب بالابن – في السنوات الاولى من حياته – هي في العادة علاقة بسيطة، فان اهميته في هذه الفترة المتقدمة لا يمكن ان تقارن بأهمية الام، ولكن اذا كان الاب لا يمثل العالم الطبيعي (الذي تمثله الام)، فان هذا لا يمنعه من ان يمثل القطب الثاني للوجود الانساني، ألا وهو عالم الفكر، عالم القانون والنظام، عالم المصنوعات البشرية، عالم الجهد والمخاطرة والانتاج، ومن هنا فإن الاب هو المعلم الذي يأخذ بيد الابن، وهو المرشد الذي يريه الطريق الى العالم الخارجي[11]......
وليس من شك أن الموقف الوجداني لكل من الام والاب بازاء الابن انما يتجاوب مع حاجات الابن نفسه – فالطفل الصغير – مثلا – هو في حاجة ماسة الى حب الام اللامشروط، لأنه احوج ما يكون الى رعاية جسمية ونفسيه تأخذ على عاتقها مسؤولية وجوده بأكمله، فاذا ما تجاوز الابن سن السادسة، بدأ يشعر بالحاجة الى محبة الاب، وسلطته، وتوجيهاته، وههنا تكون وظيفة الام هي ان تكفل للأبن الاحساس بالأمن والطمأنينة، في حين تصبح وظيفة الاب هي الاضطلاع بتعليم ابنه، وارشاده، وتزويده بالقدرة على مواجهة المشكلات التي سيلقاها في المجتمع، وليس من شأن الطمأنينة التي تكفلها الام للابن أن تقف حجر عثرة في سبيل نموه، أو اتكاله على نفسه، وانما لابد من ان يكون الهدف الذي تعمل من اجله هو ان تساعده على بلوغ مرحلة الفطام النفسي، اعني مرحلة الانفصال والاستقلال، وكذلك ليس من شأن التربية التي يمنحها الاب لابنه ان تتخذ صورة قيادة غاشمة تقوم على التهديد والوعيد، بل لابد للأب من أن يعمل على زيادة إحساس الابن النامي بكفاءته وقدرته على توجيه نفسه، حتى يتمكن الابن يوما من أن يستغنى عن والده، لكي يستمد سلطته من اعماق نفسه.
وحينما يتم اكمال نضوج الشخصية، فان الابن لابد من ان يصبح قديرا على الاستقلال بنفسه، لكي يكون أما وأباً لنفسه، وهنا تكون (الصحة النفسية) بمثابة ضرب من التوازن الذي يقيمه الشخص الناضج لنفسه بين شريعة الام وشريعة الاب، بين الحب المطلق اللامشروط والحب المقيد المشروط، بين الشعور بالأمن والطمأنينة والنزوع نحو العمل والمخاطرة، بين القدرة على الحب والميل الى تحكيم العقل واصدار الاحكام. ومعنى هذا ان الابن لا يستدمج او يمتص (في صميم ذاته العليا) كلا من الام والاب، وانما هو يبني لنفسه ضميرين مختلفين: أحدهما يستند الى شريعة الام على الحب والاخر يستند الى شريعة الاب القائمة على العقل والحكم، وليست الامراض النفسية المتنوعة سوى صور مختلفة من عجز الشخص البالغ عن اقامة ضرب من (التوازن) بين هذين الضميرين، وحينما يستجيب الابن للتربية التي يقدمها الابوين، فان قبوله لهما يصبح بمثابة استجابة اخرى او مكافأة جديدة يظفر بها الابوين، وليس المقصود بالاستجابة هنا ان يحاكي الابن نموذجا او مثالا تفرضه عليه امه او ابوه، بل المقصود ان يعتنق الاتجاه الذهني الذي يتلاءم مع القوة الملهمة الصادرة اليه في وسعه أن يبادل والديه حباً بحب، وأن يعمل على توليد الحب في نفسيهما بنفسيهما بنشاطه الخاص، ولما كان الحب قوة من شأنها أن تولد الحب، فليس بدعاً أن ترى الابن في سن العاشرة (أو حتى قبل ذلك) يستجيب لحب والده، فيحاول بدوره أن يكون محباً بدلا من ان يظل مجرد محبوب، وهنا قد يفكر الابن لأول مرة في ان يقدم شيئاً لامه او لأبيه أوقد يفكر في انتاج شيء سواء أكان رسماً أو ما شاكل ذلك، وحين يبلغ الابن مرحلة المراهقة المبكرة، فانه سرعان ما يتغلب على تمركزه الذاتي، وبالتالي فإن الشخص الاخر لا يصبح في نظره مجرد وسيلة لإشباع حاجاته، بل قد تصبح حاجات هذا الشخص الاخر أهم في نظره من حاجته الخاصة، وهكذا يصبح العطاء عنده امتع من الاخذ، ويصير منح الحب أهم من تقبله، وحين يعرف المراهق كيف يحب، فانه عندئذ سرعان ما يحطم جدران الوحدة النفسية التي اقامتها من حوله ميوله، وبعد ان كان لسان حال الابن يقول: انني محبوب لأنني احب[12].
ومن المؤكد أن الصلة الروحية الوثيقة التي تجمع بين الاباء والابناء في مجتمع عائلي واحد كثيراً ما تسمح للحب بأن ينتصر على اعتبارات شتى، وأن الابوين حين يربيان أبناءهما، فانهما في الوقت نفسه يوسعان من دائرة وجودهما، ويضاعفان من معنى حياتهما، وقد يكون السر الاكبر الذي تنطوي عليه الحياة الابوية أنها تتيح للأبوية الفرصة لان يضحيان بانانيتهما، دون ان يفقدا فرديتهما، فالأبوان يتنازلان عن نرجسيتهما، لكن لكي يجنيان من وراء هذا التنازل حياة شخصية مضاعفة، وهما يعيشان في ضمير ابناءهم، لكنهما ايضا يرتدان الى ذاتهما لكي يزيدا من ثراء حياتهما، ولا شك ان الابوين حين يستجيبان لنداء الابوية الحقة فانهما عندئذ يربيان ابناءهما لأنفسهم، لكن تجربة الابوية لا تلبث ان توسع من افاق وجودها الزمني، فيقدمان لهما خبرة نفسية هامة يزيدان من خصوبة حياتهما الروحية، وهكذا نرى دورة الحب لابد ان تكتمل، ومن هنا فان الهبة التي يتلقاها الام والاب لابد من ان تأتي أعظم من الهبة التي منحوها، وفقا للقاعدة السائدة في كل حب ألا وهي أن الجواب لابد دائما من أن ينطوي على اكثر مما احتواه السؤال![13] وهذا ما اشار اليه اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتاب تقريب القرآن في سورة الاسراء والتي كانت عنوانا لهذا البحث.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
اضافةتعليق
التعليقات